فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السموات والأرض. وقال الضّحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السموات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسيّ: {وَلِلَّهَ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي عِلم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعًا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.
{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} أي يوم القيامة؛ إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص {يُرْجَعُ} بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يُرَد.
{فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} أي الجأ إليه وثِق به.
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: {يعملون} إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال: بعضهم وقال: {تعملون} بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. اهـ.

.قال الخازن:

{ولله غيب السموات والأرض} يعني يعلم ما غاب عن العباد فيهما يعني أن علمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع الأشياء خفيها وجليها وحاضرها ومعدومها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {إليه يرجع الأمر كله} يعني إلى الله يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة: {فاعبده} يعني أن من كان كذلك كان مستحقًا للعبادة لا غيره فاعبده ولا تستغل بعبادة غيره: {وتوكل عليه} يعني وثق به في جميع أمورك فإنه يكفيك: {وما ربك بغافل عما تعملون} قال أهل التفسير هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم والمعنى أنه سبحانه وتعالى يحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، ولا حظ لمخلوق في علم الغيب.
وقرأ نافع وحفص: يرجع مبنيًا للمفعول، الأمر كله أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم.
وقال أبو علي الفارسي: علم ما غاب في السموات والأرض، أضاف الغيب إليهما توسعا انتهى.
والجملة الأولى دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليها وجزئيها حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط، إذ علمه تعالى لا يتفاوت.
والجملة الثانية دلت على القدرة النافذة والمشيئة.
والجملة الثالثة دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلى بها العبد.
والجملة الرابعة: دلت على الأمر بالتوكل، وهي آخرة الرتب، لأنه بنور العبادة أبصر أنّ جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها، لا يشركه في شيء منها أحد من خلقه، فوكل نفسه إليه تعالى، ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شيء منها.
والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المجازاة، فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد.
وقرأ الصاحبان، وحفص، وقتادة، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، والجحدري: تعملون بتاء الخطاب، لأنّ قبله اعملوا على مكانتكم.
وقرأ باقي السبعة: بالياء على الغيبة، واختلف عن الحسن وعيسى بن عمر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ}
فيرجع لا محالة أمرُك وأمرُهم إليه وقرئ على البناء للفاعلِ من رجع رجوعًا: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك، والفاءُ لترتيب الأمرِ بالعبادة والتوكلِ على كون مرجعِ الأمور كلِّها إلى الله تعالى، وفي تأخير الأمرِ بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ بأنه لا ينفع دونها: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم بموجبه وقرئ تعملون على تغليب المخاطَب أي أنت وهم فيجازي كلًا منك ومنهم بموجب الاستحقاق. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جل وعلا: {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره عز شأنه: {يُرْجَعُ الأمر} أي الشأن: {كُلُّهُ} فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه، وقرأ أكثر السبعة: {يُرْجَعُ} بالبناء للفاعل من رجع رجوعًا: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فانه سبحانه كافيك، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه، وقيل: على ذلك، وكونه تعالى عالمًا بكل غيب أيضًا، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لاْن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع.
وقيل: التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك؛ ومن التوكل التولك فيه كأنه قيل: امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا سضق صدرك منهم: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب على تغليب المخاطب، وبذلك قرأ نافع وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله بن أحمد بن حنبل.
وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة هود: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} إلى آخر السورة، والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كلام جامع وهو تذييل للسورة مؤذن بختامها، فهو من براعة المقطع.
والواو عاطفة كلامًا على كلام، أوْ واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير.
واللاّم في: {لله} للملك وهو ملك إحاطة العلم، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض.
وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وُعدوا من النعيم المغيب عنهم، ونذارة المشركين بما تُوعَدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة.
وتقديم المجروريْن في: {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض، لأنّ ذلك ممّا لا يشاركه فيه أحد.
وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره، لأنّ من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد، ومن كان كذلك كان حقيقًا بأن يفرد بالعبادة.
ومعنى إرجاع الأمر إليه: أنّ أمر التّدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله، أي إلى علمه وقدرته، وإنْ حسَب الناس وهيّأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد، وكثيرًا ما اعتزّ العزيز بعزّته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب، وربّما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة.
والتعريف في: {الأمر} تعريف الجنس فيعمّ الأمور، وتأكيد الأمر بـ: {كله} للتّنصيص على العموم.
وقرأ مَن عدا نافعًا: {يرجع} ببناء الفعل بصيغة النائب، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله.
وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون (الأمر) هو فاعل الرجوع، أي يرجع هو إلى الله.
وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصَرّف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرّف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجوّل الباحث عن مكان يستقرّ به ثم إيوائه إلى المقرّ اللائق به ورجوعه إليه، فهي تمثيلية مكنية رُمز إليها بفعل: {يرجع} وتعديته بـ: {إليه}.
وتفريع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكّل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر، لأنّ الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكّل عليه في كلّ مهم.
وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكّلوا على شفاعة الآلهة ونفعها.
ويتضمّن أمر النبي عليه الصلاة والسّلام بالدّوام على العبادة والتوكّل.
والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكّل عليه دون غيره بقرينة: {وإليه يرجع الأمر كلّه}، وبقرينة التفريع لأنّ الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكّل إلى غيره، فلذلك لم يؤْتَ بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما.
وجملة: {وما ربك بغافل عَمّا تعملون} فذلكة جامعة، فهو تذييل لما تقدّم.
والواو فيه كَالْوَاو في قوله: {ولله غيبُ السّماوات والأرض} فإنّ عدم غفلته عن أيّ عمل أنّه يعطي كل عامل جزاء عمله إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًا فشرّ، ولذلك علّق وصف الغافل بالعمل ولم يعلّق بالذوات نحو: بغافل عنكم، إيماء إلى أنّ على العمل جزاء.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب {عمّا تعملون} بتاء فوقية خطابًا للنبيء صلى الله عليه وسلم والناس معه في الخطاب. وقرأ من عداهم بالمثنّاة التحتيّة على أن يعود الضمير إلى الكفّار فهو تسلية للنبيء عليه الصلاة والسّلام وتهديد للمشركين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله سبحانه من خلال ما يُنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد شاء الحق سبحانه أن يحفظ هذا الذِّكْر الحكيم، ثقة منه سبحانه أنه إذا أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من الكائنات مؤمنهم وكافرهم فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق.
وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض المُدْركات، ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ، فإذا أخبر الله تعالى عن أمر لم نشهده من قديم قد أَوْغَلَ في الزمن، ولم يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ولم يسمعه من معلِّم؛ فهذا كَشْف لحجاب الماضي.
ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء ماكُنات القرآن مثل قول الحق: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]. وغير ذلك من الآيات التي تبدأ بقول الحق: {مَا كُنْتَ}.
وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيبًا عن الرسول ومَنْ معه؛ لكن الحق سبحانه أظهر هذا الغيب للرسول الذي لم يجلس إلى مُعلِّم بشهادة أعدائه، وكذلك كشف الحق سبحانه لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان.
ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان؛ إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضًا، والذي كشف هذا هو الحق سبحانه الذي قدَّر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم الساعة.
وقد طمر الحق سبحانه في القرآن أمورًا لو كُشف عنها في زمن بَعْثة الرسول؛ لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك؛ وتحدث سبحانه عن وقائع مستقبلية بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى عليه وسلم؛ لم يكن أحد يتوقعها.
وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام؛ حضارة فارس وحضارة الروم، وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ. وهَزَمَتْ فارس التي لا تؤمن بإله امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة.
لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء؛ فَيُسرِّي الله سبحانه الأمر على رسوله، ويُنزِل الحق سبحانه قرآنًا يُتلَى على مَرِّ العصور وكل الأزمان؛ يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس.
ويقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 1- 5].
هكذا تأتي النبوءة في القرآن تحمل التحديد لميعاد نصر الروم في بضع سنين؛ والبِضْع يقصد به من ثلاث لتسع سنوات. وإنْ قيل: تلك نبوءة محمد، نقول: ما عِلْم محمد بأخبار المعسكرين ولا بأسرار السياسة الداخلية لهما؟
وقد جاء نصر الروم كما حدد القرآن، وكان هذا هَتْكا للحجب، حجاب الزمان، وحجاب المكان، وحجاب الناس، وأوحى به الحق سبحانه عالم الغيب المطلق لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والغيب المطلق هو الذي لا يعرفه إلا الحق تبارك وتعالى وليس له مقدمات، ويكشفه الله لمن يرتضيه، مصداقًا لقوله سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26- 27].
وهذا الغيب المطلق يختلف عن الغيب المقيّد الذي له مقدمات؛ ما إن يأخذ بها الإنسان ويرتبها حتى يصل إلى اكتشاف سرٍّ من أسرار الكون.
والحق سبحانه هو القائل: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. وهكذا نعلم أن كل المكتشفات كانت موجودة في الكون ومطمورة فيه؛ وجعل الله تعالى لكل مستور منها ميلادًا، فالبخار واستخدامه في الحركات كان له ميلاد؛ والكهرباء كان لها ميلاد؛ واكتشاف الذرة كقوة ومصدر للطاقة كان له ميلاد، وكل مُكْتَشف ومُخْتَرع له ميلاد، وتتوالى مواليد الغيب مستقبلًا، وفي ميلادها إيمان اليقين بمن أخفاه وأظهره، وهو الله الحكيم.
وقد يأتي هذا الميلاد بكشف وبحث؛ وقد يُظهره الله بدون بَحْث؛ أو يُظهره صدفة؛ مثلما أظهر قانون الطفو النابع من قاعدة أرشميدس ومثلما أظهر الحق سبحانه قانون الجاذبية صدفة؛ أي: أنه سبب من الأسباب جعل عبدًا من عباده يبحث في شيء، فيظهر له شيء لم يكن يبحث عنه؛ ولذلك نسب الحق سبحانه الإحاطة له سبحانه.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123].
ولم يقل: {إليه يَرْجع الأمر كله}، لأنه سبحانه ضبط كل مخلوق على قدر. ولله المثل الأعلى: كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين، وكما يضبط المقاتل القنبلة لتنفجر في توقيت معين، والكون كله مُرتَّب على هذا الترتيب.
والله سبحانه القائل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
فكل شيء إما يرجع إلى الله في التوقيت الذي شاءه الله.
أو: أن الأمر هو كل ما يتعلق بكائن حي؛ لأن الحق سبحانه قد خلق في الكون أشياء وترك ملكيتها له سبحانه والحق سبحانه لا ينتفع بها، أما الإنسان فينتفع بها، وإن كان لا يقربها ولا يملكها، مثل: الشمس التي ترسل أشعتها، ويستفيد الإنسان بضوئها وحرارتها، وهي لا تدخل في ملكية الإنسان؛ لأنها من أساسيات الحياة؛ لذلك لم يجعل للإنسان الذي خَصَّه الله بخاصية الاختيار حق ملكيتها أو الاقتراب منها؛ حتى لا يعبث بها.